مصطلح الأزمة ( Crisis) مشتق أصلاً من الكلمة اليونانية (KIPVEW ) أي بمعنى لتقرر (To decide) فإدارة الأزمات تستند أساسا على عملية اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. ويظهر ذلك جليا من خلال بداية ظهور مفهوم الأزمة المتداول في العلوم الطبية وهو المصطلح اليوناني (كرنيو) الذي يعني نقطة تحول وهي فترة زمنية فاصلة ليتحول فيها المريض إلى الأسوأ أو إلى الأفضل. يظهر هذا المفهوم جليا في اللغة الصينية فكلمة أزمة تنطق ( Ji-Wet) وهي عبارة عن كلمتين: الأولى تدل على ( الخطر ) والثانية تدل على (الفرصة)، والغاية من هذه المقدمة هو بسط فكرة أن الأزمة لا تؤدي إلى كوارث فقط بل الأزمة يمكن استثمارها وتكمن البراعة في تحويل الأزمة وما تحمله من مخاطر إلى فرصة استثمارية من خلال اتخاذ القرارات المناسبة وإعادة صياغة الأهداف ووضع خطط بديلة.

بما أن إدارة الأزمات تتطلّب الاستعداد لما قد لا يحدث والتعامل مع ما يحدث فإننا في جائحة الكورونا في العالم وخاصة في تونس نتعامل مع ما يحدث من خلال فرض الاجراءات الصحية الوقائية في انتظار إيجاد الحلول العلاجية وهو ما يسبب أزمات مركبة أي أن أزمة كورونا سببت ولا زالت تسبب العديد من الازمات المتفرعة عنها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والمالية ... وفي الأزمات التاريخية الكبرى ثمة أزمات تؤجج المشاكل وتعقِّدها هي نفسها تحفز الطاقات للإبداع واستثمار هذه المرحلة لتظهر قوى جديدة لتظهر وضعيات مغايرة. لذلك من حقنا أن نطرح هذا التساؤل في شكل تفاؤل: هل يمكن لتونس أن تجعل من جائحة كورونا فرصة استثمارية؟

سنحاول القيام بمقاربة إدارية حول الواقع والمستقبل من خلال المعيار التاريخي لما قبل الكورونا واثناءها واعتمادا على المؤشرات التي تم إنجازها فإننا يمكن تحديد صورة مستقبلية قريبة من الواقع لو توفرت العديد من العوامل التي سنتناولها تباعا.

هل يمكن اعتبار الزمن ، عاملا حاسما؟ من الناحية الزمنية عطلت أزمة كورونا عجلة النشاط في جميع المجالات وامتدت لمدة زمنية تقدر بثلاثية كاملة أي ثلاثة أشهر ابتداء من شهر مارس وامتدادا إلى افريل وماي قبل أن تستأنف أغلب القطاعات نشاطاتها بداية من الاسبوع الأول من شهر جوان تقريبا. واستنادا على المعيار الزمني التنافسي نجد أن بعض الدول سبقتنا في اجتياح الكورونا لبلدانها مثل الصين بطبيعة الحال لأنها مهد الازمة والعديد من الدول الاسيوية والغربية والعربية. ويعتبر توقيت ظهور الازمة عاملا مهما في السيطرة على الأزمات أو تجنبها لأن لنا المساحة الزمنية الكافية للتخطيط واختيار الاستراتيجية المناسبة واعداد الاجراءات الاحترازية و التأهب والاستعداد، ولكن توقيت ظهور الأزمة لا يعتبر حاسما مثل التوقيت الزمني الذي تمت السيطرة فيها على الأزمة والنجاح في تجنب الأضرار مع المحافظة على استمرارية الأعمال. لنتعمق أكثر في تجربة تونس في إدارة هذه الجائحة حيث سنجد أن حاملي الفيروس حاليا أقل من 1 % (0.07%) أي 74 إصابة حاليا حاملة لفيروس الكورونا وتحت السيطرة أي في الحجر الصحي الإجباري ومنها حالتان فقط تعالجان في المستشفى من اجمالي عدد حاملي الفيروس المعلن عنها 1051 إصابة أي السيطرة عى الوباء بنسبة تفوق 99 والمؤشر الهام للغاية هو انعدام العدوى الأفقية والحالات الجديدة هي وافدة وتحت الحجر الاجباري.

لذلك يمكن القول بأن التجربة التونسية في إدارة هذه الازمة الوبائية كانت ناجحة إن لم نقل أنها قامت بإنجاز تاريخي بالاعتماد على مؤشرات الإصابات والوفيات ومقارنة بدول المنطقة ودول العالم وخاصة الغنية منها والتي لها تقاليد وخبرة كبيرة في كيفية إدارة الأزمات. ولهذه الأسباب التي تم سردها وفي اعتقادي الشخصي المتواضع أرى أن الدولة قامت بخطأ استراتيجي عند عدم إظهار هذا الإنجاز والتسويق له لما له من فوائد وانعكاسات إيجابية سنحددها لاحقا لذلك يجب استغلال العامل الزمني للإعلان على السيطرة على هذه الجائحة في انتظار الإعلان النهائي على أنها خالية من الفيروس.

الاعلان على السيطرة على الفيروس سيكون حاسما في ظل التنافسية العالمية لصالح الدولة الخالية من الوباء وهذا يرجع أولا لتعطل مسيرة الانتاج في أغلب دول العالم أو العودة الجزئية للعمل في القطاعات الحيوية والاساسية للدول. وتعتبر تونس لها أسبقية زمنية على منافسيها لمدة تقدر بثلاثة أشهر وهي جوان وجويلية وأوت لتستعيد بقية الدول نشاطها المعتاد وخاصة الدول المنافسة منها وهي إيطاليا واسبانيا وتركيا والمغرب وفرنسا. مع العلم وأن العجز التجاري لتونس قد تقلص بقيمة 9ر1492 مليون دينار ، ليصبح في حدود 5ر4844 م د، مع موفى افريل 2020، مقابل 9ر6336 م د في نفس الفترة من سنة 2019. أما صادرات شهر مارس 2020 شهدت تراجعا ملحوظا مع أهم الشركاء الاوروبيين، اساسا فرنسا (44 بالمائة) والمانيا (38 بالمائة) وايطاليا (34 بالمائة) وكذلك مع بعض البلدان العربية على غرار ليبيا (47 بالمائة) والجزائر (22 بالمائة) ... وهو ما يشجع القطاعين الخاص والعام على زيادة الانتاج والانتاجية لاكتساح الأسواق العالمية في ظل انخفاض الانتاج وبالتالي انخفاض العرض مع المحافظة على الطلب في بعض المنتوجات الاستهلاكية وخاصة منها الغذائية وهو ما يعتبر نقطة قوة الاقتصاد التونسي فهو يعتمد على تصدير الخضر والغلال ومنتوجات الصيد البحري مع بعض المنتوجات الغذائية التحويلية وهو ما يخول لنا الدخول لأسواق جديدية متعطلة فيها عملية الانتاج مثل روسيا وامريكا وغيرها. 

كما أن الاعلان عن السيطرة على الوباء ستعزز مكانة السلع والمنتوجات التونسية في العالم لما لها من دعم نفسي على المستهلك عند الاختيار في عملية الاستهلاك فهو أصبح عامل نفسي مهم يعزز ذوقه ويحدد خياره وهو ما يكرس التفوق في المجالات التنافسية. وهذا العامل النفسي سيكون هو الفيصل والحاسم في تعزيز قدراتنا التنافسية السياحية والعمل على أن تكون وجهة رائدة لاسواق سياحية جديدة وقديمة وكذلك العمل على جذب النخبة السياحية أي اعتماد على النوعية عوض الكمية وهو ما يفيدنا أكثر في هذه المرحلة مع الالتزام طبعا بالجانب الوقائي ودعمه واجبارية تطبيق الاحترازات الوقائية خاصة وأن العائدات السياحية بلغت إلى غاية 10 ماي 2020، 1 مليار دينار لتسجل بذلك تراجعا بنسبة 27 بالمائة مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2019، وفق المعطيات التي نشرها البنك المركزي التونسي اليوم الإثنين 18 ماي 2020.

وبما أن المدخرات من العملة الصعبة وصلت إلى 21.6 مليار دينار، إلى غاية 15 ماي 2020، وهو ما يعادل 133 يوم توريد في حين لم تتجاوز هذه المدخرات 13 مليار دينار في 2019 (ما يعادل 74 يوم توريد). وبما أن الموازنة 2020 اعتمدت على معدل سعر نفط في حدود 65 دولاراً، فيما تؤدي كل زيادة بدولار واحد في سعر البرميل إلى زيادة في نفقات الدعم بـ142 مليون دينار فإنه يمكن للدولة أن تستغل أزمة انخفاض سعر البترول في هذه الفترة الذي وصل فيه سعر البترول إلى 35 دولار تقريبا ولن يتجاوز 50 دولار في نهاية السنة وذلك بتكوين مخزون استراتيجي من البترول وذلك عبرشراء وتخزين كميات كبيرة من البترول. مع القضاء نهائيا على التداين الخارجي وأي شكل من أشكال القروض الاستهلاكية سواء كان داخلي أو خارجي وتكون الاستثناءات فقط للقروض الاستثمارية الاستراتيجية التي لها انعكاسات إيجابية على المدى القصير والبعيد. 

لكل هذه العوامل والظروف المحيطة وبسبب إمكانيات الدولة اللوجستية وقدرة الشعب على التحدي اعتقد موضوعيا أن الظروف جد مناسبة لاقتناص واستغلال الفرص المتاحة في هذه الفترة لتحقيق الأسبقية امام المنافسين وغزو أسواق جدديدة مع دعمها بالديبلوماسية التجارية والسياحية ولا يكون ذلك إلا بإرادة سياسية وباجراءات وقرارات حكومية وقوانين تواكب التطورات العالمية والأخذ بزمام المبادرة بكل ثقة لدفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياحية وخاصة الصحية وهو مكسبنا من هذه الجائحة . 

المقالات ذات الصلة

الكورونا في تونس: أزمة أم فرصة

مصطلح الأزمة ( Crisis) مشتق أصلاً من الكلمة اليونانية (KIPVEW ) أي بمعنى لتقرر (To de ...

إدارة أزمة كورونا في تونس

في موضوع إدارة أزمة كورونا في تونس أرتأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع من الناحية الإ ...

الحجر الصحي في تونس

ارتفعت الأصوات في الفترة الأخيرة منادية برفع الحجر الصحي في البلاد.... و بقطع النظر ع ...

اعداد موازنة التخطيط والبرمجة‎

اعداد موازنة التخطيط والبرمجة د. رياض مهدي كريم   مقدمة تعتمد الإدار ...